فصل: الآية رقم ‏(‏101‏)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏64 ‏:‏ 65‏)‏

‏{‏ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ‏.‏ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع‏}‏ أي فرضت طاعته على من أرسله إليهم، وقوله‏:‏ ‏{‏بإذن اللّه‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي لا يطيع أحد إلى بإذني، يعني لا يطيعه إلا من وفقته لذلك، كقوله‏:‏ ‏{‏ولقد صدقكم اللّه وعده إذ تحسونه بإذنه‏}‏ أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم، وقوله‏:‏ ‏{‏ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم‏}‏ الآية، يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيستغفروا اللّه عنده ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب اللّه عليهم ورحمهم وغفر لهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لوجدوا اللّه تواباً رحيماً‏}‏ وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه ‏(‏الشامل‏)‏ الحكاية المشهورة عن العتبي قال‏:‏ كنت جالساً عند قبر النبي صلى اللّه عليه وسلم فجاء أعرابي فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول اللّه، سمعت اللّه يقول‏:‏ ‏{‏ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا اللّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللّه تواباً رحيما‏}‏ وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول‏:‏

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف الأعرابي، فغلبنتي عيني فرأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم في النوم فقال‏:‏ ‏(‏يا عتبي إلحق الأعرابي فبشره أن اللّه قد غفر له‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم‏}‏، يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى اللّه عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً‏}‏ أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كلياً، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به‏)‏، وقال البخاري عن عروة قال‏:‏ خاصم الزبير رجلاً في شراج الحرة، فقال النبي ‏(‏اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك‏(‏ فقال الأنصاري‏:‏ يا رسول اللّه أن كان ابن عمتك‏؟‏ فتلوَّن وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال‏:‏ ‏(‏اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر ثم أرسل الماء إلى جارك‏)‏ ‏؟‏‏؟‏ النبي صلى اللّه عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما صلى اللّه عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير‏:‏ فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهمْ الآية‏.‏ وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه‏:‏ خاصم الزبير رجلاً إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقضى للزبير، فقال الرجل‏:‏ إنما قضى له لأنه ابن عمته فنزلت‏:‏ ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون‏}‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏66 ‏:‏ 70‏)‏

‏{‏ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ‏.‏ وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ‏.‏ ولهديناهم صراطا مستقيما ‏.‏ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ‏.‏ ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ‏}‏

يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبوه من المناهي لما فعلوه، لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر، وهذا من علمه تبارك وتعالى بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم‏}‏ الآية، قال ابن جرير ‏{‏ولو أنها كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم‏}‏ الآية، قال رجل‏:‏ لو أمرنا لفعلنا والحمد للّه الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إن من أمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواس‏)‏، وقال السدي‏:‏ افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود، فقال اليهودي‏:‏ واللّه لقد كتب اللّه علينا القتل فقتلنا أنفسنا، فقال ثابت‏:‏ واللّه لو كتب علينا ‏{‏أن اقتلوا أنفسكم‏}‏ لفعلنا، فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به‏}‏ أي‏:‏ ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما ينهون عنه، ‏{‏لكان خيراً لهم‏}‏ أي من مخالفة الأمر وارتكاب النهي ‏{‏وأشد تثيبتاً‏}‏ قال السدي‏:‏ أي وأشد تصديقاً، ‏{‏وغذا لآتيناهم من لدنا‏}‏ أي من عندنا ‏{‏أجراً عظيماً‏}‏ يعني الجنة، ‏{‏ولهدذناهم صراطاً مستقيماً‏}‏ أي في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً‏}‏ أي من عمل بما أمره اللّه به ورسوله وترك ما نهاه اللّه عنه ورسوله، فإن اللّه عزّ وجلَّ يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقاً للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة، وهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين، وهم الصالحون الذي صلحت سرائرهم وعلانيتهم، ثم أثنى عليهم تعالى، فقال‏:‏ ‏{‏حسن أولئك رفيقاً‏}‏ وقال البخاري عن عائشة قالت‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما من نبي يمرض إلا خيِّر بين الدنيا والآخرة‏)‏، وكان في شكواه التي قبض فيها أخذته بحة شديدة، فسمعته يقول‏:‏ ‏{‏مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبييّن والصدّيقين والشهداء والصالحين‏}‏ فعلمت أنه خُيِّر‏.‏ وهذا معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏اللهم الرفيق الأعلى‏)‏ ثلاثاً ثم قضى، عليه أفضل الصلاة والتسليم‏.‏

ذكر  سبب نزول هذه الآية الكريمة

روى ابن جرير عن سعيد بن جبير قال‏:‏ جاء رجل من الأنصار إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا فلان مالي أراك محزوناً‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ يا نبي اللّه شيء فكرت فيه، فقال ما هو‏؟‏ قال‏:‏ نحن نغدوا ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم شيئاً، فأتاه جبريل بهذه الآية‏:‏ ‏{‏ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين‏}‏ الآية، فبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم فبشره وعن عائشة، قالت‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ إنك لأحب إليَّ من نفسي، واحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلتّ الجنة رفعتَ مع النبييّن، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى نزلت عليه ‏{‏ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً‏}‏‏.‏

وثبت في صحيح مسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال‏:‏ كنت أبيت عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي‏:‏ سل فقلت‏:‏ يا رسول اللّه أسألك مرافقتك في الجنة، فقال‏:‏ ‏(‏أو غير ذلك‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ هو ذاك، قال‏:‏ ‏(‏فأعني على نفسك بكثرة السجود‏)‏ وقال الإمام أحمد عن عمروا بن مرة الجهني، قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه شهدت أن لا إله إلا اللّه، وأنك رسول اللّه؛ وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعقَّ والديه‏)‏ تفرد به أحمد‏.‏ وروى الترمذي عن أبي سعيد قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء‏)‏ وقد ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متوترة عن جماعة من الصحابة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال‏:‏ ‏(‏المرء مع من أحب‏)‏ قال أنس‏:‏ فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث، وفي رواية عن أنس أنه قال‏:‏ إني لأحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأحب أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما، وأرجوا أن اللّه يبعثني معهم، وإن لم أعمل كعملهم‏.‏ قال الإمام مالك بن أنس عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال‏:‏ ‏(‏بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم‏"‏قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الفضل من اللّه‏}‏ أي من عند اللّه برحمته، وهو الذي أهّلهم لذلك لا بأعمالهم، ‏{‏وكفى باللّه عليماً‏}‏ أي هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏71 ‏:‏ 74‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ‏.‏ وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ‏.‏ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ‏.‏ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ‏}‏

يأمر اللّه تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعُدَدْ وتكثير العدد بالنفير في سبيل اللّه، ‏{‏ثباتٍ‏}‏ أي جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، وسرية بعد سرية، والثبات‏:‏ جمع ثبة وقد تجمع الثبة على ثبين، قال ابن عباس‏:‏ يعني سرايا متفرقين ‏{‏أو انفروا جميعاً‏}‏ يعني كلكم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منكم لمن ليبطئن‏}‏ قال مجاهد نزلت في المنافقين ليبطئن أي ليتخلفن عن الجهاد، ويحتمل أن يكون المراد أن يتباطأ هو في نفسه، ويبطىء غيره عن الجهاد، كما كان عبد اللّه بن أبي بن سلول قبحه اللّه يفعل، يتأخر عن الجهاد ويثبط الناس عن الخروج فيه، وهذا قول ابن جريج وابن جرير، ولهذا قال تعالى إخباراً عن المنافق أنه يقول إذا تأخر عن الجهاد ‏{‏فإن أصابتكم مصيبة‏}‏ أي قتل وشهادة وغلب العدو لكم لما للّه في ذلك من الحكمة ‏{‏قال قد أنعم اللّه عليَّ إذ لم أكن معهم شهيداً‏}‏ أي إذا لم أحضر معهم وقعة القتال، يعد ذلك من نعم اللّه عليه، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل، ‏{‏ولئن أصابكم فضل من اللّه‏}‏ أي نصر وظفر وغنيمة ‏{‏ليقولن كأن لم تكن بينك وبينه مودة‏}‏ أي كأنه ليس من أهل دينكم ‏{‏يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً‏}‏ أي بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه، وهو أكبر قصده وغاية مراده، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فليقاتل‏}‏ أي المؤمن النافر ‏{‏في سبيل اللّه الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة‏}‏ أي بيعون دينهم بعرض قليل من الدنيا، وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقاتل في سبيل اللّه فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ أي كل من قاتل في سبيل اللّه سواء قتل أو غلب فله عند اللّه مثوبة عظيمة وأجر عظيم، كما ثبت في الصحيحين وتكفل اللّه للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏75 ‏:‏ 76‏)‏

‏{‏ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ‏.‏ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ‏}‏

يحرّض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من المقام بها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية‏}‏ يعني مكة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك‏}‏ ثم وصفها بقوله‏:‏ ‏{‏الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا‏}‏ أي سخر لنا من عندك ولياً وناصراً‏.‏ قال البخاري عن عبيد اللّه، قال، سمعت ابن عباس قال‏:‏ كنت أنا وأمي من المستضعفين، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا يقاتلون في سبيل اللّه والذي كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏77 ‏:‏ 79‏)‏

‏{‏ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ‏.‏ أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ‏.‏ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ‏}‏

كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذا ذاك مناسباً لأسباب كثيرة‏:‏ منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار منعة وأنصار، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه، جزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفاً شديداً‏:‏ ‏{‏وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏}‏ أي لولا أخرت فرضه إلى مدة أخرى فإن فيه سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأَيَّمَ النساء، وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال‏}‏ الآيات‏.‏ عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم بمكة فقالوا يا نبي اللّه‏:‏ كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنّا صرنا أذلة قال‏:‏ ‏(‏إني أمرت بالعفوا فلا تقاتلوا القوم‏)‏ فلما حوله اللّه إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا ايديكم‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم والنسائي والحاكم‏"‏الآية‏.‏ وقال السدي‏:‏ لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا اللّه أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال ‏{‏إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية اللّه أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب‏}‏ وهو الموت، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى‏}‏ أي آخرة المتقي خير من دنياه ‏{‏ولا تظلمون فتيلاً‏}‏ أي من أعمالكم، بل توفونها أتم الجزاء، وهذه تسلية لهم عن الدنيا وترغيب لهم في الآخرة وتحريض لهم على الجهاد، وقال ابن أبي حاتم عن هشام قال‏:‏ قرأ الحسن ‏{‏قل متاع الدنيا قليل‏}‏ قال‏:‏ رحم اللّه عبداً صحبها على حسب ذلك وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب، ثم انتبه‏.‏ وقال ابن معين‏:‏ كان أبو مصهر ينشد‏:‏

ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له * من اللّه في دار المقام نصيب

فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنها * متاع قليل والزوال قريب

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏ أي أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ولا ينجوا منه أحد منكم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كل من عليها فان‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كل نفس ذائقة الموت‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد‏}‏ والمقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد أو لم يجاهد فإن له أجلاً محتوماً، ومقاماً مقسوماً، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه‏:‏ لقد شهدت كذا وكذا موقفاً، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنه أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولو كنتم في بروج مشيدة‏}‏ أي حصينة منيعة عالية رفيعة، أي لا يغني حذر وتحصن من الموت كما قال زهير بن أبي سلمى‏:‏

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه * ولو رام أسباب السماء بسُلَّم

ثم قيل‏:‏ المُشَيَّدة هي المُشَيَّدة كما قال وقصر مشيد وقيل‏:‏ بل بينهما فرق وهو أن المشيّدة بالتشديد هي المطولة، وبالتخفيف هي المزينة بالشيد وهو الجص‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصبهم حسنة‏}‏ أي خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك، وهذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي ‏{‏يقولوا هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيئة‏}‏ أي قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك ‏{‏يقولوا هذه من عندك‏}‏ أي من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك، كما قال تعالى عن قوم فرعون‏:‏ ‏{‏فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعبد اللّه على حرف‏}‏ الآية‏.‏ وهكذا قال هؤلاء المنافقون، الذين دخلوا في الإسلام ظاهراً وهم كارهون له في نفس الأمر، ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى أتباعهم للنبي صلى اللّه عليه وسلم، وقال السدي ‏{‏وإن تصبهم حسنة‏}‏ قال، والحسنة‏:‏ الخصب تنتج مواشيهم وخيولهم ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان، قالوا‏:‏ ‏{‏هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيئة‏}‏ والسيئة‏:‏ الجدب والضرر في أموالهم تشاءموا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وقالوا‏:‏ ‏{‏هذه من عندك‏}‏ يقولون بتركنا ديننا واتباعنا محمداً أصابنا هذا البلاء، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ، ‏{‏قل كل من عند اللّه‏}‏ فقوله‏:‏ قل كل من عند اللّه أي الجميع بقضاء اللّه وقدره، وهو نافذ في البر والفاجر والمؤمن والكافر، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏قل كل من عند اللّه‏}‏ أي الحسنة والسيئة وكذا قال الحسن البصري‏.‏ ثم قال تعالى منكراً على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب، وقلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم ‏{‏فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً‏}‏‏؟‏

ثم قال تعالى مخاطباً لرسوله صلى اللّه عليه وسلم والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب‏:‏ ‏{‏ما أصابك من حسنة فمن اللّه‏}‏ أي من فضل اللّه ومنِّه ولطفه ورحمته، ‏{‏وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏}‏ أي فمن قبلك، ومن عملك أنت، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير‏}‏ قال السدي‏:‏ ‏{‏فمن نفسك‏}‏ أي بذنبك، وقال قتادة في الآية‏:‏ ‏{‏فمن نفسك‏}‏ عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك، قال‏:‏ وذكر لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يصيب رجلاً خدش عود ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو اللّه أكثر‏)‏، وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلاً في الصحيح، ‏(‏والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا حزن، ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر اللّه عنه بها من خطاياه‏(‏، وقال أبو صالح ‏{‏وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏}‏ أي بذنبك وأنا الذي قدرتها عليك وراه ابن جرير‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسلناك للناس رسولاً‏}‏ أي تبلغهم شرائع اللّه وما يحبه اللّه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه ‏{‏وكفى باللّه شهيداً‏}‏ أي على أنه أرسلك وهو شهيد أيضاً بينك وبينهم، وعالم بما تبلغهم إياه وبما يردون عليك من الحق كفراً وعناداً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏80 ‏:‏ 81‏)‏

‏{‏ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ‏.‏ ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ‏}‏

يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم بأن من أطاعه فقد أطاع اللّه، ومن عصاه فقد عصى اللّه، وما ذاك إلا لأنه ‏{‏ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى‏}قال ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من أطاعني فقد أطاع اللّه، ومن عصاني فقد عصى اللّه ؛ ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني‏)‏ ‏"‏الحديث ثابت في الصحيحين‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً‏}‏ أي ما عليك منه، إن عليك إلا البلاغ فمن اتبعك سعد ونجا، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له، ومن تولى عنك خاب وخسر، وليس عليك من أمره شيء كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏من يطع اللّه ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ اللّه ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون طاعة‏}‏ يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة ‏{‏فإذا برزوا من عندك‏}‏ أي خرجوا وتواروا عنك ‏{‏بيَّت طائفة منهم غير الذي تقول‏}‏ أي استسروا ليلاً فيما بينهم بغير ما أظهروه لك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه يكتب ما يبيّتون‏}‏ أي يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد، والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلاً من مخالفة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولن آمنا باللّه وبالرسول وأطعنا‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ أي اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تخف منهم أيضاً، ‏{‏وتوكل على اللّه وكفى بالله وكيلاً‏}‏ أي كفى به ولياً وناصراً ومعيناً لمن توكل عليه وأناب إليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏82 ‏:‏ 83‏)‏

‏{‏ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ‏.‏ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ‏}‏

يقول تعالى آمراً لهم بتدبر القرآن ناهياً لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبراً لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏ولو كان من عند غير اللّه‏}‏ أي لو كان مفتعلاً مختلقاً، كما يقوله من يقول من جهلة المشركين والنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافاً، أي اضطراباً وتضاداً كثيراً، وهذا سالم من الاختلاف فهو من عند اللّه، كما قال تعالى مخبراً عن الراسخين في العلم حيث قالوا‏:‏ ‏{‏آمنا به كل من عند ربنا‏}‏ أي محكمة ومتشابهه حق، فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا، ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين‏.‏ قال الإمام أحمد عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر فكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال لهم‏:‏ ‏(‏ما لكم تضربون كتاب اللّه بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم‏)‏،وعن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ هجّرت إلى رسول اللّه يوماً، فإنّا لجلوس إذا اختلف اثنان في آية فارتفعت أصواتهما فقال‏:‏ ‏(‏إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب‏)‏ ‏"‏رواه مسلم والنسائي‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به‏}‏ إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة، وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع‏)‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين‏)‏ ولنذكر ههنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته حين بلغه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طلق نساءه فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى اللّه عليه وسلم فاستفهمه، أطلقت نساءك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ فقلت‏:‏ اللّه أكبر وذكر الحديث بطوله‏.‏ وعن مسلم فقلت‏:‏ أطلقتهن فقال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي‏:‏ لم يطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏، فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر، ومعنى يستنبطونه أي يستخرجونه من معادنه، يقال‏:‏ استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها، وقوله‏:‏ ‏{‏لاتبعتم الشيطان إلا قليلا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني المؤمنين، وقال قتادة ‏{‏لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً‏}‏ يعني‏:‏ كلكم واستشهد من نصر هذا القول بقول الطرماح في مدح يزيد بن المهلب‏:‏

أشم، نديّ، كثير النوادي * قليل المثالب، والقادحة

يعني لا مثالب له ولا قادحة فيه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏84 ‏:‏ 87‏)‏

‏{‏ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ‏.‏ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا ‏.‏ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ‏.‏ الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا ‏}‏

يأمر تعالى عبده ورسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم بأن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عنه فلا عليه منه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا تكلف إلا نفسك‏}‏ عن أبي إسحاق قال، قلت للبراء‏:‏ الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة‏؟‏ قال‏:‏ لا إن اللّه بعث برسوله صلى اللّه عليه وسلم قولا‏:‏ ‏{‏فقاتل في سبيل اللّه لا تكلف إلا نفسك‏}‏ إنما فذلك في النفقة ‏"‏رواه أحمد وابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حرض المؤمنين‏}‏ أي على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عليه، كما قال لهم صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف‏:‏ ‏(‏قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض‏)‏ وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏من آمن باللّه ورسوله، وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان، كان حقاً على اللّه أن يدخله الجنة هاجر في سبيل اللّه أو جلس في أرضه التي ولد فيها‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه أفلا نبشر الناس بذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن في الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين في سبيل اللّه بين كل درجتين كما بين السماء والأرض؛ فإذا سألتم اللّه فاسأوله الفردوس فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة؛ وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عسى اللّه أن يكف بأس الذين كفروا‏}‏ أي بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء، ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه أشد بأساً وأشد تنكيلاً‏}‏ أي هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك ولو يشاء اللّه لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض‏}‏ الآية، وقوله ‏{‏من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها‏}‏ أي من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك، ‏{‏ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفر منها‏}‏ أي يكون علي وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏اشفعوا تؤجروا؛ ويقضي اللّه على لسان نبيه ما شاء‏)‏ وقال مجاهد بن جبر‏:‏ نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض وقول‏:‏ ‏{‏وكان اللّه على كل شيء مقيتاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي حفيظاً، وقال مجاهد‏:‏ شهيداً، وفي رواية عنه حسيباً‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ المقيت الرزاق، وعن عبد اللّه بن رواحة‏:‏ وسأله رجل عن قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وكان اللّه على كل شيء مقيتاً‏}‏ قال‏:‏ مقيت لكل إنسان بقدر عمله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏}‏ أي إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة، قال ابن جرير عن سلمان الفارسي، قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول اللّه، فقال‏:‏ ‏(‏وعليك السلام ورحمة اللّه ‏)‏ ثم جاء آخر فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه ؛ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته‏)‏، ثم جاء آخر فقال‏:‏السلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركات، فقال له‏:‏ ‏(‏وعليك‏)‏ فقال له الرجل‏:‏ يا نبي اللّه بأبي أنت وأمي‏:‏ أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهم أكثر مما رددت علي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنك لم تدع لنا شيئاً، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏}‏ فرددناها عليك‏)‏

وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، إذا لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال الإمام أحمد عن عمران بن حصين أن رجلا جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ السلام عليكم يا رسول اللّه فرد عليه ثم جلس، فقال‏:‏ ‏(‏عشر‏)‏ ثم جاء آخر فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة اللّه يا رسول اللّه فرد عليه ثم جلس فقال ‏(‏عشرون‏)‏ ثم جاء آخر فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فرد عليه، ثم جلس فقال‏:‏ ‏(‏ثلاثون‏)‏ وقال ابن ابي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ من سلّم عليك من خلق اللّه فاردد عليه، وإن كان مجوسياً ذلك بأن اللّه يقول‏:‏ ‏{‏فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏}‏ وقال فأما أهل الذمة فلا يُبدأون بالسلام ولا يزادون بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليكم فقل وعليك‏)‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه‏)‏، وقال الحسن البصري‏:‏ السلام تطوع والرد فريضة، وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة أن الرد واجب على من سلم عليه فيأثم إن لم يفعل، لأنه خالف أمر اللّه في قوله‏:‏ ‏{‏فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏}‏ وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود بسنده إلى أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم‏؟‏ أفشوا السلام بينكم‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللّه لا إله إلا هو‏}‏ إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات وتضمن قسماً لقوله‏:‏ ‏{‏ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه‏}‏ هذه الام موطئة للقسم فقوله تالله لا غله إلا هو خير وقسم أنه يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من اللّه حديثاً‏}‏ أي لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره ووعده ووعيده، فلا إله إلا هو ولا رب سواه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏88 ‏:‏ 91‏)‏

‏{‏ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ‏.‏ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ‏.‏ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ‏.‏ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ‏}‏

يقول تعالى منكراً على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين، واختلف في سبب ذلك، فقال الإمام أحمد عن زيد بن ثابت‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهم فرقتين، فرقة تقول‏:‏ نقتلهم، وفرقة تقول‏:‏ لا، هم المؤمنون فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏فما لهم في المنافقين فئتين‏}‏، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد‏)‏ ‏"‏رواه الشيخان‏"‏وقد ذكر محمد بن إسحاق في وقعة أُحد‏:‏ أن عبد اللّه بن ابي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش، رجع بثلثمائة وبقي النبي صلى اللّه عليه وسلم في سبعمائة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه أركسهم بما كسبوا‏}‏ أي ردهم وأوقعهم في الخطا، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏أركسهم‏}‏ أي أوقعهم، وقال قتادة‏:‏ أهلكهم، وقال السدي‏:‏ أضلهم، وقوله‏:‏ ‏{‏بما كسبوا‏}‏ أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل ‏{‏أتريدون أن تهدوا من أضل اللّه ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلاً‏}‏ أي لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه، وقوله‏:‏ ‏{‏دوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء‏}‏ أي هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل اللّه فإن تولوا‏}‏ أي تركوا الهجرة قاله ابن عباس، وقال السدي‏:‏ أظهروا كفرهم ‏{‏فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيرا‏}‏، أي لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء اللّه ما داموا كذلك ثم استثنى اللّه من هؤلاء فقال‏:‏ ‏{‏إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ أي إلا الذين لجأوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة فاجعلوا حكمهم كحكمهم، وهذا قول السدي وابن جرير‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي قال‏:‏ لما ظهر النبي صلى اللّه عليه وسلم على أهل بدر وأُحد وأسلم من حولهم، قال سراقة بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج فأتيته، فقلت‏:‏ أنشدك النعمة، فقالوا صه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏دعوه، ما تريد‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم، فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال‏:‏ ‏(‏اذهب معه فافعل ما يريد‏)‏، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء‏}‏ وقد روي عن ابن عباس أنه قال نسخها قوله‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏أو جاؤوكم حصرت صدورهم‏}‏ هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الأمر بقتالهم وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حصرة صدورهم أي ضيقة صدورهم، مبغضين أن يقاتلوكم ولا يهون عليهم أيضاً أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم ‏{‏ولو شاء اللّه لسلطهم عليكم فلقاتلوكم‏}‏ أي من لطفه بكم أن كفهم عنكم ‏{‏فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقو إليكم السلم‏}‏ أي المسالمة ‏{‏فما جعل اللّه لكم عليهم سبيلاً‏}‏ أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه ولهذا نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم‏}‏ الآية، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون، يظهرون للنبي صلى اللّه عليه وسلم ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم‏}‏ الآية، وقال ههنا‏:‏ ‏{‏كلما رُدّوا إلى الفتنة أركسوا فيها‏}‏ أي انهمكوا فيها، وقال السدي‏:‏ الفتنة ههنا الشرك، وحكى ابن جرير عن مجاهد‏:‏ أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم‏}‏ المهادنة والصلح ‏{‏ويكفوا أيديهم‏}‏ أي عن القتال ‏{‏فخذوهم‏}‏ أسراء ‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم‏}‏ أي أين لقيتموهم ‏{‏وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً‏}‏ أي بيناً واضحاً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏92 ‏:‏ 93‏)‏

‏{‏ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما ‏.‏ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا اللّه، وأني رسول اللّه، إلا بأحدى ثلاث‏:‏ النفس بالنفس، والثب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة‏)‏، ثم إذا وقع شي من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا خطا‏}‏ قالوا‏:‏ هو استثناء منقطع كقول الشاعر‏:‏

من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ * على الأرض إلا ريط بردٍ مرحّل

واختلف في  سبب نزول هذه، فقال مجاهد‏:‏ نزلت في عياش بن أبي ربيعة وذلك أنه قتل رجلاً يعذبه مع أخيه على الإسلام، وهو الحارث بن يزيد الغامدي فأسلم ذلك الرجل وهاجر، وعياش لا يشعر، فلما كان يوم الفتح رآه فظن أنه على دينه فحمل عليه فقتله فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏ قال ابن اسلم‏:‏ نزلت في أبي الدرداء لأنه قتل رجلاُ وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السيف فأهوى به إليه، فقال كلمته، فلما ذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم، قال‏:‏ إنما قالها متعوذاً، فقال له‏:‏ هل شققت عن قلبه‏؟‏ وهذه القصة في الصحيح لغير أبو الدرداء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً خطا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله‏}‏، هذان واجبان في قتل الخطأ، أحدهما‏:‏ الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وإن كان خطا، ومن شروطها أن تكون عتق ‏{‏رقبة مؤمنة‏}‏ فلا تجزىء الكافرة، وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم‏:‏ أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء، قال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏أين اللّه ‏)‏ قالت‏:‏ في السماء، قال‏:‏ ‏(‏من أنا‏)‏ قالت‏:‏ رسول اللّه قال‏:‏ ‏(‏أعتقها فإنها مؤمنة‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ودية مسلمة إلى أهله‏}‏ هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل عوضاً لهم عما فاتهم من قتيلهم، وهذه الدية إنما تجب أخماساً كما رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود، قال‏:‏ قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في دية الخطا عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكورا وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة، وعشرين حقة وإنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله، قال الشافعي رحمه اللّه ‏:‏ لم أعلم مخالفاً أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وهو أكثر من حديث الخاصة، وهذا الذي اشار إليه رحمه اللّه قد ثبت في غير ما حديث، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت أحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها‏)‏ وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطا المحض في وجوب الدية، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثاً لشبهة العمد‏.‏

وفي صحيح البخاري عن عبد اللّه بن عمر، قال‏:‏ بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون‏:‏ صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتلهم، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرفع يديه، وقال‏:‏ ‏(‏اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد‏)‏ وبعث عليا فودى قتلاهم، وما أتلف من أمولاهم حتى مليغة الكلب، وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطا الإمام أو نائبه يكون في بيت المال، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يصدقوا‏}‏ أي فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب، وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ أي إذا كان القتيل مؤمناً، ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب فلا دية لهم على القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير‏.‏

وقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ الآية أي فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمناً فيدة كاملة وكذا إن كان كافراُ أيضاً عند طائفة من العلماء، وقيل‏:‏ يجب في الكافر نصف دية المسلم، وقيل‏:‏ ثلثها كما هو مفصل في كتاب الأحكام، ويجب أيضاً على القاتل تحرير رقبة مؤمنة، ‏{‏فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين‏}‏ أي لا إفطار بينهما، بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر من مرض أو حيض أو نفاس استأنف، واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا على قولين، وقول‏:‏ ‏{‏توبة من اللّه وكان اللّه عليماً حكيماً‏}‏ أي هذه توبة القاتل خطا إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام، هل يجب عليه إطعام ستين مسكيناً كما في كفارة الظهار‏؟‏ على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ نعم، كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار، وإنما لم يذكر ههنا لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص، والقول الثاني‏:‏ لا يعدل إلى الطعام لأنه لو كان واجباً لما أخر بيانه عن وقت الحاجة ‏{‏وكان اللّه عليماً حكيماً‏}‏ قد تقدم تفسيره غير مرة، ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ شرع في بينا حكم القتل العمد، فقال‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً‏}‏ الآية، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك باللّه في غير ما آية في كتاب اللّه، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون من اللّه إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللّه إلا بالحق‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا‏}‏ً الآية‏.‏

والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء‏)‏، وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏لزوال الدنيا أهون عند اللّه من قتل رجل مسلم‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم اللّه في النار‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه ‏)‏، وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً، وقال البخاري عن المغيرة بن النعمان قال‏:‏ سمعت بان جبير قال‏:‏ اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسالته عنها فقال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم‏}‏ هي آخر ما نزل وما نسخها شيء‏.‏ وقال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع اللّه إلهاً آخر‏}‏ إلى آخرها قال‏:‏ نزلت في أهل الشرك‏.‏ وقال ابن جرير عن سعيد بن جبير قال‏:‏ سألت ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم‏}‏ قال‏:‏ إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم لا توبة له فذكرت ذلك لمجاهد فقال‏:‏ إلا من ندم، وروى سالم بن أبي الجعد قال‏:‏ كنا عند ابن عباس بعدما كُفَّ بصره فأتاه رجل فناداه‏:‏ يا عبد اللّه بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً‏؟‏ فقال‏:‏ جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، قال‏:‏ افرأيت إن تاب وعمل صالحاً ثم اهتدى‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى‏؟‏ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً، جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يقول‏:‏ يا رب سل هذا فيم قتلني‏(‏، وإيم الذي نفس عبد اللّه بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى اللّه عليه وسلم وما نزل بعدها من برهان ‏"‏أخرجه ابن جرير عن سالم بن أبي الجعد‏"‏

وعن عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ يجيء المقتول متعلقاً بقاتله يوم القيامة آخذاً راسه بيده الأخرى، فيقول‏:‏ يا رب سل هذا فيم قتلني‏؟‏ قال، فيقول‏:‏ قتلته لتكون العزة لك، فيقول‏:‏ فإنها لي، قال‏:‏ ويجيء آخر متعلقاً بقاتله، فيقول‏:‏ رب سل هذا فيم قتلني‏؟‏ قال، فيقول‏:‏ قتلته لتكون العزة لفلان قال‏:‏ فإنها ليست له بؤ بإثمه، قال فيهوي في النار سبعين خريفاً‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والنسائي‏.‏ ومعنى بؤ أي ارجع بإثمه‏"‏

حديث آخر ‏:‏ قال الإمام أحمد عن أبي إدريس، قال‏:‏ سمعت معاوية رضي الله عنه يقول‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمداً‏)‏ والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها‏:‏ أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل، فإن تاب وأناب، وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات، وعوَّض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع الله أله آخر - إلى قوله ‏:‏ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً‏}‏ الآية وهذا خبر لا يجوز نسخه وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر ويحتاج حمله إلى دليل، والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه‏}‏ الآية، وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك، كل من تاب تاب اللّه عليه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها، لتقوية الرجاء واللّه أعلم‏.‏ وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالماً هل لي من توبة فقال‏:‏ ومن يحول بينك وبين التوبة‏؟‏ ثم أرشده إلى بلد يعبد اللّه فيه، فهاجر إليه فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة كما ذكرناه غير مرة‏.‏ وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الامة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى، لأن اللّه وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة، فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً‏}‏ الآية، فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف، هذا جزاؤه إن جازاه، وكذا كل وعيد على ذنب لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قولي اصحاب الموازنة والإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، واللّه أعلم بالصواب‏.‏ وبتقدير دخول القاتل في النار، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحاً ينجو به فليس بمخلد فيها أبداً، بل الخلود هو المكث الطويل، وقد تواترت الأحاديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان‏)‏، وأما حديث معاوية‏:‏ ‏(‏كل ذنب عسى اللّه أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمداً‏)‏ فعسى للترجي، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لانتفى وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل، لما ذكرنا من الأدلة‏.‏

وأما من مات كافرا فالنص أن اللّه لا يغفر له البتة، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة أو يعوض اللّه المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها نحو ذلك واللّه أعلم‏.‏

ثم لقاتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة، فأما في الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا‏}‏ الآية، ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا، أو يعفوا، أو يأخذوا دية مغلظة - أثلاثاً - ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، كما هو مقرر في كتاب الأحكام، واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام على أحد القولين كما تقدم في كفارة الخطأ على قولين‏:‏ فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون‏:‏ نعم يجب عليه، لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى فطردوا هذا في كفارة اليمن الغموس، وقال أصحاب الإمام أحمد وآخرون‏:‏ قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه وكذا اليمين الغموس، وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع قال‏:‏ أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا‏:‏ إن صاحباً لنا قد أوجب، قال‏:‏ ‏(‏فليعتق رقبة يفدي اللّه بكل عضو منها عضواً منه من النار‏)‏

 الآية رقم ‏(‏94‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ‏}‏

روى أحمد عن ابن عباس قال‏:‏ مر رجل من بني سليم بنفر من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم يرعى غنماً له فسلم عليهم فقالوا‏:‏ لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، واتو بغنمه النبي صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ إلى آخرها ‏"‏رواه أحمد والترمذي والحاكم‏"‏وقال البخاري عن عطاء عن ابن عباس ‏{‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا‏}‏ قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل اللّه في ذلك‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناْ قال ابن عباس‏:‏ عرض الدنيا تلك الغنيمة وقرأ ابن عباس السلام، وقال الحافظ أبو بكر البزار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية فيه المقداد بن الاسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير ولم يبرح فقال أشهد أن لا إله إلا اللّه وأهوى إليه المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه‏:‏ أقتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا اللّه ‏؟‏ واللّه لأذكرن ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا يا رسول اللّه إن رجلاً شهد أن لا إله إلا اللّه فقتله المقداد فقال‏:‏ ‏(‏ادعوا لي المقداد، يا مقداد أقتلت رجلاً يقول لا إله إلا اللّه ‏؟‏ فكيف لك بلا إله إلا اللّه غداً‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين أمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند اللّه مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن اللّه عليكم فتبينوا‏}‏، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للمقداد‏:‏ ‏(‏كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل‏)‏ ‏"‏أخرجه الحافظ البزار من حديث ابن عباس‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏فعند اللّه مغانم كثيرة‏}‏ أي خير مما رغبتم فيه من عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام، وأظهر لكم الإيمان فتغافلتم عنه واتهمتموه بالمصانعة والتقية لتبتغوا عرض الحياة الدنيا فما عند اللّه من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم‏}‏ أي قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض‏}‏ الآية‏.‏ عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قوله‏:‏ ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ لم تكونوا مؤمنين، ‏{‏فمنَّ اللّه عليكم‏}‏ أي تاب عليكم فحلف أسامة لا يقتل رجلاً يقول لا إله إلا اللّه بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه، وقوله ‏{‏فتبينوا‏}‏ تأكيد لما تقدم، وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان بما تعملون خبيراً‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ هذا تهديد ووعيد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏95 ‏:‏96‏)‏

‏{‏ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ‏.‏ درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما‏}‏

قال البخاري عن البراء قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏ دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيداً فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته، فأنزل اللّه ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ وقال البخاري أيضاً عن سهل بن سعد الساعدي‏:‏ أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد قال‏:‏ فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أملي عليَّ‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللّه‏}‏، فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ قال‏:‏ يا رسول اللّه ‏:‏ والله لو استطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى، فأنزل اللّه على رسوله صلى اللّه عليه وسلم وكان فخذه على فخذي فثقلت عليَّ حتى خفت أن تُرضَّ فخذي ثم سري عنه فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر‏}‏ عن بدر والخارجون إلى بدر، ولما نزلت غزوة بدر قال عبد اللّه بن جحش وابن أم مكتوم‏:‏ إنا أعميان يا رسول اللّه فهل لنا رخصة‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر‏}‏ وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر ‏{‏وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه‏}‏ على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر‏.‏ فقوله ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏ كان مطلقاً فلما نزل بوحي سريع ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ صار ذلك مخرجاً لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد من العمى والعرج والمرض عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم‏.‏

ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ وكذا ينبغي أن يكون كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير وقال قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه قالوا‏:‏ وهم بالمدينة يا رسول اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ نعم حبسهم العذر‏)‏ وفي رواية عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه‏)‏ قالوا‏:‏ وكيف يكونون معنا فيه يا رسول اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم حبسهم العذر‏)‏ قال الشاعر في هذا المعنى‏:‏

يا راحلين إلى البيت العتيق لقد * سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا

إنا أقمنا على عذر وعن قدر * ومن أقام على عذر فقد راحا

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلاً وعد اللّه الحسنى‏}‏ أي الجنة والجزاء الجزيل، وفيه دلالة على ان الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً‏}‏ ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات، في غرف الجنات العاليات، ومغفرة الذنوب والزلات، وأحوال الرحمة والبركات، إحساناً منه وتكريماً ولهذا قال‏:‏ ‏{‏درجات منه ومغفرة ورحمة وكان اللّه غفوراً رحيماً‏}‏‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن في الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والارض‏)‏

 الآية رقم ‏(‏97 ‏:‏ 100‏)

‏{‏ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ‏.‏ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ‏.‏ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ‏.‏ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ‏}‏

عن ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سوادهم على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل، فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ ‏"‏رواه البخاري‏"‏وقال ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم، قال المسلمون‏:‏ كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ الآية، قال‏:‏ فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية لا عذر لهم‏.‏ قال‏:‏ فخرجوا فلقيهم المشركون فأعطوهم التقية فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا باللّه‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏الآية، قال الضحاك‏:‏ نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب، فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم‏}‏ أي بترك الهجرة ‏{‏قالوا فيم كنتم‏}‏ أي لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة‏؟‏ ‏{‏قالوا كنا مستضعفين في الأرض‏}‏ أي لا نقدر على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض ‏{‏قالوا ألم تكن أرض اللّه واسعة‏}‏ الآية، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو داود في السنن‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا المستضعفين‏}‏ إلى آخر الآية، هذا عذر من اللّه لهؤلاء في ترك الهجرة وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني طريقاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك عسى اللّه أن يعفو عنهم‏}‏ أي يتجاوز اللّه عنهم بترك الهجرة، و عسى من اللّه موجبة ‏{‏وكان اللّه عفواً غفوراً‏}‏ قال البخاري عن أبي هريرة قال‏:‏ بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال‏:‏ سمع اللّه لمن حمده؛ ثم قال قبل أن يسجد‏:‏ ‏(‏اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف‏}‏، وقال البخاري عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إلا المستضعفين‏}‏ قال‏:‏ كنت أنا وأمي ممن عذر اللّه عزَّ وجلَّ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يهاجر في سبيل اللّه يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة‏}‏ وهذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه، والمراغم مصدر تقول العرب‏:‏ راغم فلان قومه مراغماً ومراغمة، قال النابغة ابن جعدة‏:‏

كطود يلاذ بأركانه * عزيز المراغم والمهرب

وقال ابن عباس‏:‏ المراغم التحول من أرض إلى أرض، وقال مجاهد ‏{‏مراغماً كثيراً‏}‏ يعني‏:‏ متزحزحاً عما يكره، والظاهر واللّه أعلم أنه المنع الذي يتخلص به ويراغم به الأعداء، قوله‏:‏ ‏{‏وسعة‏}‏ يعني الرزق قاله غير واحد منهم قتادة حيث قال في قوله ‏{‏يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة‏}‏ أي من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى اللّه ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على اللّه‏}‏ أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند اللّه ثواب من هاجر كما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏)‏ وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال، ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعا وتسعين نفساً، ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالماً هل له من توبة، فقال له‏:‏ ومن يحول بينك وبين التوبة‏؟‏ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد أخرى يعبد اللّه فيه، فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الأخرى أدركه الموت في أثناء الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقال هؤلاء إنه جاء تائباً، وقال هؤلاء‏:‏ إنه لم يصل بعد، فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها، فأمر اللّه هذه أن تقترب من هذه، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة‏.‏

قال الإمام أحمد عن عبد اللّه بن عتيك قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من خرج من بيته مجاهداً في سبيل اللّه، فخرَّ عن دابته فقد وقع أجره على اللّه، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على اللّه، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على اللّه ‏)‏ وقال ابن ابي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال‏:‏ خرج ضمرة بن جندب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت الآية، وقال الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من خرج حاجاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً في سبيل اللّه فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة‏)

 الآية رقم ‏(‏101‏)

‏{‏ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض‏}‏ أي سافرتم في البلاد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الآية، واستدلوا بها على  قصر الصلاة في السفر على اختلافهم في ذلك فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة‏:‏ من جهاد، أو حج أو عمرة، أو طلب علم، أو زيارة، أو غير ذلك‏.‏

ومن قائل لا يشترط سفر القربة، بل لا بد أن كون مباحاً لقوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم‏}‏ الآية، كما أباح له تناول الميتة مع الإضطرار بشرط أن لا يكون عاصياً بسفره، وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة، ومن قائل‏:‏ يكفي مطلق السفر سواء كان مباحاً أو محظوراً حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الآية وخالفهم الجمهور، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزل هذه الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو في سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً‏}‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم‏}‏‏.‏ وقال الإمام أحمد عن يعلى بن أُمية قال‏:‏ سألت عمر بن الخطاب قلت له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ وقد أمن الناس، فقال لي عمر رضي اللّه عنه‏:‏ عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول اللّه عن ذلك فقال‏:‏ ‏(‏صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته‏)‏ وعن أبي حنظلة الحذاء قال‏:‏ سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال‏:‏ ركعتان، فقلت أين قوله‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ ونحن آمنون، فقال‏:‏ سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏أخرجه ابن أبي شيبة‏"‏وقال ابن مردويه عن أبي الوداك قال‏:‏ سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال‏:‏ هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوهما‏.‏ وقال أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس قال‏:‏ صلينا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنوا لا نخاف بينهم ركعتين ركعتين‏.‏ وقال البخاري عن أنس يقول خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت‏:‏ أقمتم بمكة شيئاً قال‏:‏ أقمنا بها عشراً‏.‏ وقال البخاري عن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركعتين وابي بكر وعمر وعثمان صدراً من إمارته ثم أتمها، وحدثنا إبراهيم قال‏:‏ سمعت عبد اللّه بن يزيد يقول‏:‏ صلى بنا عثمان بن عفان رضي اللّه عنه بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه فاسترجع، ثم قال‏:‏ صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ابن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري‏"‏‏.‏

فهذه الأحاديث دالة صريحاً على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ولهذا قال من قال من العلماء إن المراد من القصر ههنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه، واعتضدوا أيضاً بما رواه الإمام مالك عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت‏:‏ فرضت ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرت صلاة السفر؛ وزيد في صلاة الحضر، قالوا‏:‏ فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قصر الكمية لأن ما هو الأصل لا يقال فيه‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد عن عمر رضي اللّه عنه قال‏:‏ صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم، زاد مسلم والنسائي عن عبد اللّه بن عابس قال‏:‏ فرض اللّه الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى اللّه عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، فكما يصلي في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلي في السفر‏.‏ فهذا ثابت عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي اللّه عنها لأنها أخبرت أن اصل الصلاة ركعتان ولكن زيد في صلاة الحضر، فلما استقر ذلك صح أن يقال‏:‏ إن فرض صلاة الحضر أربع كما قاله ابن عباس واللّه أعلم لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر رضي اللّه عنه، وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ قصر الكيفية كما في صلاة الخوف، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ الآية، ولهذا قال بعدها‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ الآية، فبين المقصود من القصر ههنا وذكر صفته وكيفيته ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدَّره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الارض فليس علكيم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ يوم كان النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات بركوعهم، وسجودهم، وقيامهم معاً جميعاً، فهمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم واثقالهم‏.‏

وقال ابن جرير عن أمية بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد قال لعبد اللّه بن عمر‏:‏ إنا نجد في كتاب اللّه قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر فقال عبد اللّه‏:‏ إنا وجدنا نبينا صلى اللّه عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به، فقد سمى صلاة الخوف مقصورة وحمل الآية عليها لا على قصر صلاة المسافر، وأقره ابن عمر على ذلك واحتج على قصر الصلاة بفعل الشارع لا بنص القرآن، واصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضاً عن سماك الحنفي قال‏:‏ سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال‏:‏ ركعتان تمام غير قصر إنما القصر في صلاة المخافة فقلت‏:‏ وما صلاة المخافة‏؟‏ فقال‏:‏ يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء فيصلي بهم ركعة فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة‏.‏